السياسة

الأردُنُّ حاضِنةُ العَربِ

نُشر في ٢٢ ايلول ٢٠٢٥ م

صورة الغلاف لـ الأردُنُّ حاضِنةُ العَربِ

حين تشرئبُّ الأعناقُ صوبَ المشرقِ العربيِّ، وتستديرُ العيونُ نحوَ الأردنِّ، ترى تاريخًا محفورًا في جبينِ الزمنِ، وأمَّةً تحملُ أمانةً أثقلَ من الجبالِ. هنا على أرضِ العروبةِ، حيث وُلِدتْ الأحلامُ الكبرى، وحيث رُسمتْ ملامحُ النهضةِ والوحدةِ. في هذه الأرضِ، التي احتضنتْ الأحرارَ وحملتْ همومَ الأمةِ، تتردَّدُ أصداءُ الماضيَ العظيمِ والأصواتُ التي لا تعرفُ الخنوعَ، لتُخبرَنا أنَّ الأردنَّ لم يكن يومًا شاهدًا صامتًا على التاريخِ، بل كان فاعلًا رئيسًا في صناعته.

 

من هُنا، من أرضِ النشامى، أُخاطِبكُم اليومَ لأحكي عن وطنٍ يحمِلِ رايةَ العربِ، وضميرَ الأمَّةِ، ورسالةَ الوحدةِ. عن وطنٍ صمدَ أمامَ التحدياتِ، ووقفَ شامخًا رغمَ العواصفِ التي هبَّت عليهِ من كلِّ صَوب.

 

أيها الحضورُ الكريمُ، إنَّ التاريخَ شاهدٌ على أنَّ الأردنَّ لم يكن يومًا كغيره من البلدانِ، بل كان ركنًا راسخًا من أركانِ العروبةِ، يحملُ على عاتقه همومَ الأمةِ ورسالتَها. فمنذ عهدِ الملكِ المؤسِّسِ عبد الله الأول - رحمه الله - كان الأردنُّ مركزًا لوحدةِ العربِ، موطنَ البدوِ والعشائرِ التي لا تعرفُ البغضَ ولا الحقدَ، كلّا فَهُم رمزُ الكرامةِ والشهامةِ، يتقاسمونَ الرغيفَ مع كلِّ ضيفٍ يطأُ أرضَهم وبيتَهم، ويحتضنونَ إخوتَهم من حولهم. الأردنُّ دائمًا ما رفَضَ ويرفُضُ وسيرفِضُ الانقسامَ والتشتُّتَ، ويُذكِّرُ الجميعَ أنَّ الاتحادَ هو السبيلُ الوحيدُ لمواجهةِ الأخطارِ المحدقةِ بالأمةِ، وعلى رأسِها المدُّ الصهيونيُّ، الوباءُ الصامتُ الذي يزرعُ بذورَ الفتنةِ والفرقةِ بينَ الدولِ العربيةِ، ينهشُ من وحدتِها، يسلبُ أرضَها وهُوِيتَها، ويغذِّي انقساماتِها ليبقي هيمنتَهُ واقعًا مفروضًا، وكما قالَ الملكُ المؤسِّسُ، شرارةُ الحلمِ العربيِّ الكبيرِ: "إذا أردتم أن تقفوا ضدَّ المدِّ الصهيونيِّ، ليس لكم حلٌّ إلا بالوحدةِ والاتحاد."

 

لكنَّ العالَمَ لمْ يَكُن يومًا رحيمًا بنا. لقد جُعلت منطِقتنُا لُعبَةً في يَدِ القوى الكُبرى، كمنْ يضَعونَنا على حافَّةِ الهاوِية، نَقِفُ على قدمٍ ونِصف، مهدّدينَ بالسُقوطِ في كلِّ لَحظة. وبينما كانتْ هذهِ القُوى تُشكِلُّ أحلامَنا على كراسيهم، اندَلَعت نكبةُ 1948 لتكونَ مشهدًا مؤلمًا، صورةً لمستقبلٍ غامضٍ. في تلكَ اللحظةِ، قدموا لنا صورةً مشوهةً عن الجيوشِ الإسرائيلية، صورةَ عصاباتٍ متفرقة، بينما كانت الحقيقةُ أكثرَ قَسوة: كانت هذه العصاباتُ قوَّةً مدرَّبةً تتألفُ من مئةٍ وثلاثةٍ وستينَ ألفًا من الجّنودِ المدجَّجينَ بالعَزيمةِ. في الجّهةِ الأخرى، كانتِ الدولُ العربيةُ قد جنَّدتْ سِتَّةَ جيوشٍ، عدَدُهُمْ لا يتجاوزُ خمسةً وخمسينَ ألفًا. ورغمَ هذا الفارقِ المخيف، وقفَ الجيشُ الأردنيّ، نعم... الجيشُ الأردنيُّ العربيّ، الذي كان لا يتجاوز عدده ستّةَ آلافٍ، كجبلٍ لا يهتز، حاميًا القُدسِ، محميًا الأماكن المقدسة، مؤكدًا على كلماتِ سيِّدِنا الحُسين: "نحنُ للعَرب الدرعُ والسيفُ"

 

دَعوني أستذكِرْ معكم تاريخَ وطنِنا وجيشِنا الذي لم يرفعْ إصبعَهُ عن الزِّنادِ يومًا وهو يسمعُ صرخاتِ فلسطينَ، دَعوني أُذكِّركم بأسماءٍ صنعَتْ تاريخًا يجبُ أن يُسرَدَ، كايد مِفلح العبيْدات وشهداءُ القُدسِ وبابُ الوادِ واللَّطْرونِ والكرامةِ والنوتردام، وصفي التلُّ وحابسُ المجالي ومشهور حديثةُ الجازي، شُهداؤُنا مُوَفَّقُ السَّلْطي وفِراسُ العَجْلوني وخضرُ شُكري يَعقوب... كلماتُ خضر شُكري يَعقوبَ ما تزالُ تتردَّدُ في أُذُني منذُ صِغَري: "الهدفُ موقعي، أَشْهَدُ أن لا إلهَ إلّا الله، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، ارْمِ، ارْمِ، انتهى."

فرسانُ عُروبَتِنا عبدُ الرزّاقِ الدلابيحُ وراشدُ الزيودِ ومعاذُ الكساسبةُ وسائدُ المعايطةِ. دَعوا أسمائَهم تبقَى تُذَكِّرُكم بأنَّ قيادتنا ستبقَى في خنْدَقِ العُروبةِ إلى أبدِ الآبدين. دَعوا ذِكرى وحدةِ الضفّتَينِ ورفضِ تدويلِ القُدسِ وصُمودِ الجيشِ داخلَ فلسطينَ بعدَ انسحابِ جميعِ الجيوشِ العربيةِ مشعلًا يُنيرُ لكم الطريقَ إلى الحقِّ في زمنٍ تتلاطَمُ فيه أمواجُ الضياعِ والفتنِ.

إِنَّ مُشْكِلَتَنا اليومَ ليستْ في نُدْرَةِ المواردِ ولا في قِلَّةِ الإمكانياتِ، بل في إدارةِ العقلِ العربيِّ الذي أَضْحَى أَسيرًا لسَرْدِيّاتٍ مُشَوَّهَةٍ تُسْلِبُهُ وَعْيَهُ. نَمْلِكُ تاريخًا حافلًا بالمآثِرِ والبُطولاتِ، ولكن، هل نَسْتَحْضِرُ هذه الأحداثَ كما تَسْتَحِقُّ؟ أَمْ أَنَّنا نَتْرُكُها تُدْفَنُ تحتَ غُبارِ النِّسيانِ، تارِكِينَ عُقولَنا فَرِيسَةً لِلتَّزْييفِ والتَّشْوِيهِ؟

إِنَّ التَّوْثِيقَ الحقيقيَّ ليسَ رَفَاهِيَّةً، بل هو ضَرورَةٌ. فَهُوَ الذي يَقُودُنا نحوَ الرَّشادِ والوَعْيِ. وما أَبْلَغَ ما قالَهُ وصفي التلُّ حينَ قال: "أكثرُ ما يُزْعِجُ الغربَ هو أن يُصْبِحَ الإنسانُ العربيُّ واعيًا". لأنَّ الوعيَ العربيَّ هو العاصفةُ التي تُقَلِّبُ الموازينَ، والنورُ الذي يَخْتَرِقُ ظُلُماتِ التَّبَعِيَّةِ، والشَّرارَةُ التي تُضِيءُ طريقَ الأُمَّةِ نحوَ النَّهْضَةِ.

كونوا على وَعْيٍ تامٍّ أنَّ الأُرْدُنَّ على مرِّ العُقودِ، كانَ الدِّرْعَ والسَّيْفَ، وكانَ قلبًا يَنْبِضُ باسمِ فلسطينَ وسوريا وكُلِّ الدُّوَلِ العربيَّةِ التي أَصابَها الوَجَعُ، يَفْتَحُ ذِراعَيْهِ للجميعِ. هذا النَّهْجُ الراسِخُ لم يَكُنْ مُجَرَّدَ سياسةٍ، بل كانَ التِزامًا إِنْسانِيًّا ثابِتًا، بَدَأَ معَ الملكِ عبدِ اللهِ الأوَّلِ واستمرَّ معَ الملكِ الحسينِ – رَحِمَهُما اللهُ – وُصُولًا إلى الملكِ عبدِ اللهِ الثَّاني، لِيُؤَكِّدَ أنَّ الأُرْدُنَّ ليسَ مُجَرَّدَ دَوْلَةٍ بل رِسالَةٌ إِنْسانِيَّةٌ وأَخْلاقِيَّةٌ عبْرَ العُصُورِ.



إِنَّ الحَقائِقَ أَمامَنا، واضِحَةٌ كالشَّمْسِ، ولا يُمْكِنُنا التَّغاضي عَمَّا يُحْدِثُهُ التَّاريخُ مِن أَثَرٍ في حاضِرِنا. اليَوْمَ، واجِبُنا هو أن نُصَدِّقَ الحَقَّ ونَحْمِيهِ، وأَنْ نُؤْمِنَ بِقُدْرَتِنا على بِنَاءِ وَعْيٍ عَرَبِيٍّ جَديدٍ يَقودُنا إلى المُسْتَقْبَلِ الَّذي نَصْبُو إِلَيْهِ. نَحْنُ بِحاجَةٍ إلى إِحْياءِ روحِ العُروبَةِ الَّتي تَجْمَعُنا، لا تُفَرِّقُنا. لأَنَّ الإِنْسانَ العَرَبِيَّ، إِذا فَهِمَ تاريخَهُ وعَرَفَ قُدُراتِهِ، فَإِنَّهُ قادِرٌ على أَنْ يَكونَ سَيْفَ الأُمَّةِ ودِرْعَها في وَجْهِ التَّحَدِّياتِ.

 

وَلِتَظَلَّ العُروبَةُ في قَلْبِ كُلٍّ مِنَّا، وَلِنَبْقَى جَميعًا في خَنْدَقٍ واحِدٍ، لا تَنْكَسِرُ عَزائِمُنا ولا تَتَراجَعُ إِرادَتُنا، لأَنَّنا مِن تِلْكَ الأَرْضِ، الَّتي صَمَدَتْ ووَهَبَتْ مِن أَجْلِكُمْ ومِن أَجْلِ فِلَسْطينَ، وَسَتَظَلُّ دائِمًا في الذَّاكِرَةِ، حَيَّةً في ضَمائِرِنا، لا تَمْحوها السُّنُونُ.

ندى عمر طبيشات

بقلم

ندى عمر طبيشات